رشيد المساوي: في سيزيفية الحرب عند الريفيين
العنوان أعلاه هو الخلاصة الأساسية التي انتهيت إليها بعد قراءتي لمؤلف امحمد لشقر “هذه الحرب لم تكن حربنا”، والذي يمكن إدراجه ضمن جنس الرواية التاريخية مادام أنه يحكي وفق زمان خطي عن تجربة جماعية بصيغة المفرد، بشكل يتداخل فيه الواقع مع الخيال.
هذه التجربة تشكل الحرب “الأهلية” في إسبانيا – وليس الإسبانية – بين سنتي 1936 و1939 مسرحها الأساسي. والمقصود طبعا هو تجربة مشاركة الريفيين في هذه الحرب في إطار القوات النظامية Regulares للانقلابيين بقيادة الجنرال فرانكو. وفي هذه الرواية نتعرف على هذه التجربة من خلال الحكاية التي يسردها موحند – الشخصية الأساسية والسارد الوحيد في الرواية – وهو يستعيد اعتمادا على ذاكرته جزءا من سيرته الذاتية، وهو يقف عند مختلف المراحل التي مر منها منذ أن قرر دون كثير تفكير (كان يهمه الهروب من الواقع الذي يعيش فيه أكثر من التفكير في الواقع الذي سيهرب إليه) الانخراط في عملية تجنيد المغاربة من طرف المستعمر الإسباني للمشاركة في هذه الحرب، مما فرض عليه مغادرة قريته الريفية توفيست تاركا وراءه زوجته الشابة و طفليه الصغيرين صيف سنة 1936، إلى أن عاد من هذه الحرب في خريف سنة 1938 وقد أصبح تقريبا شخصا آخر بعد أن فعلت الحرب فعلها فيه.
وعلى مدار الحكاية – التي تأتي طبعا بضمير المتكلم – ندرك بداية أن السبب الأساسي الذي قاد موحند إلى الدخول في هذه المغامرة غير المحسوبة العواقب، هو الهروب من البؤس الذي يعيشه هو وأسرته والطمع في مستقبل أفضل لأبنائه (ص 14)، ناهيك عن الرغبة في تجنب الجو المكهرب في العائلة الكبيرة نتيجة الحضور الطاغي لشخصية أبيه في مجتمع ذكوري صرف. ثم نتعرف بعد ذلك على أهم التجارب التي مر بها بعد عبوره إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط، بدءا بصداقته مع احميدو الطنجاوي، هذا الشخص المتعلم الذي سيفتح عينيه على حقائق هذه الحرب والذي سيقوده حظه العاثر إلى أن ينتهي مقتولا في إحدى المواجهات، مما ترك أثرا بليغا في نفسية موحند إلى درجة أنه سيغامر بحياته ليقوم بدفن صديقه في مكان يليق به ويمكن من التعرف على قبره.
كما يحكي بعد ذلك عن علاقة العشق التي ستربطه بتيريزا TERESA، هذه الممرضة التي تعرف عليها بعد إصابته في رجله اليسرى إثر انفجار قذيفة بالقرب منه، مما فرض عليه أن يبقى مقعدا في المستشفى لشهور، والتي ستخصص له عناية خاصة جعلته غير قادر لاحقا على محو طيف حضورها في ذهنه. لكن ومضات الحياة هذه لن تنسيه التركيز في حكيه عن أهوال الحرب وفظاعاتها التي عايشها بمعية رفاقه وهم يعبرون المدن والبلدات الإسبانية (إشبيلية، ترايانا، ألكالا، باداخوز، ألكازار، طوليدو … مدريد) التي تساقطت تباعا في يد الانقلابيين الذين نهجوا أسلوب الحرب الشاملة التي لا تفرق بين المدنيين والعسكريين في مواجهة خصومهم الجمهوريين الذين أبانوا مع ذلك عن شجاعتهم واستماتهم في المقاومة دفاعا عن الشرعية ورفضا للحكم الدكتاتوري.
“هل الحرب أو المواجهة عند الريفي تقوم مقام الصخرة عند سيزيف؟ أي هل هي قدره ولا يمكن تصوره بدونها؟”
وطبعا فقد تركت هذه المشاهد المؤلمة – وخاصة تلك التي عاينها في باداخوز قبل بلوغ مدريد – أثرا بليغا فيه وطبعته بطابعها إلى الأبد (ص 205) خاصة وأنه لم يكن مجرد شاهد عيان عليها، بل مساهما في حصولها، بل والأدهى من ذلك مدركا ولو بشكل متأخر أن هذه الحرب لا تعنيه في شيء. وقد عبر عن هذه الحقيقة المؤلمة بقوله: “سؤال ظل يؤرقني، وهو معرفة من قاد آلاف المغاربة الفقراء للمجيء قصد قتل إسبان معوزين مثلهم. أحسست أنني مذنب ومسؤول عن موت هؤلاء الناس الأبرياء. سأحتفظ بهذا التأنيب للضمير ما حييت” (ص 182). هكذا إذن ستشمه هذه الحرب رغم قصر مدتها، وتترك فيه ليس فقط ندوبا جسمية في رجله اليسرى، وإنما أيضا ندوبا نفسية غائرة يصعب تجاهلها أو تناسيها.
بعد هذا الجرد البانورامي والسريع لأهم مضامين الرواية، سأكتفي بالوقوف بعجالة عند قضيتين فكريتين تثيرهما. أولهما، قضية العلاقات الإنسانية في بعديها المتناقضين: البعد الذي يكشف عن غريزة الموت حيث تشكل الحرب هنا تجليها الأبرز، إذ فيها لا ينتظر الإنسان الموت وإنما يذهب إليه لينتهي قاتلا أو مقتولا كاشفا بذلك عن مكون الشر المطلق داخله، وهو ما يتبين أكثر في الرواية من خلال مشاهد الإعدامات الجماعية والجثث المرمية في الشوارع أو وراء المتاريس أو في الخنادق (وقد زاد استعمال سلاح الطيران من فظاعة هذه الحرب). وفي المقابل هناك البعد الذي يكشف عن غريزة الحياة كما يتضح من خلال حديث موحند عن صداقته الحميمية مع الطنجاوي، أو عن علاقته الغرامية التي جمعته بتيريزا؛ واللتان مكنتاه من الانفلات أحيانا من التفكير في جحيم الحرب. أما القضية الفكرية الثانية فترتبط بالتاريخ من خلال استحضار هذا “العناق المميت” بين ضفتي المتوسط، حيث تتبدى مشاركة الريفيين في هذه الحرب كما لو كانت انتقاما لهذا “المورو” – والذي يبدو في عين الآخر متوحشا لأنه يذهب إلى الموت بصدر مكشوف ويزرع الرعب في كل مكان يمر به (ص34)- لماض قريب يرتبط بالفظاعات التي رافقت استعمار اسبانيا للريف، أو ماض بعيد يرتبط بالطرد المهين للمسلمين من الأندلس في نوع من مكر التاريخ.
في خاتمة هذا التقديم لهذه الرواية أعود لأتساءل في انسجام مع العنوان الذي اخترته له: هل الحرب أو المواجهة عند الريفي تقوم مقام الصخرة عند سيزيف؟ أي هل هي قدره ولا يمكن تصوره بدونها؟ وإلا فما معنى أن يضع صخرة الحرب في 1926 ليعود بسرعة لحملها في 1936؟ وهل يمكن أن نذهب أبعد في التعميم فنقول – كما كثير من الدارسين – أن هذه خاصية الإنسان الأمازيغي؟ ثم ألا يمكن القول إن الهجرة وما تخلفه من ضحايا ليست سوى استمرار لهذه الحرب بصيغة مقنعة؟ هذه أسئلة وأخرى أثارته في قراءة هذه الرواية، والتي بدت لي في الأخير أنها جزء ثان من ثلاثية للكاتب امحمد لشقر (الجزء الأول تشكله روايته ” على درب الممانعين) أراد من خلالها المساهمة إبداعيا في واجب حفظ الذاكرة الريفية في القرن العشرين.